الجريوي
06-02-2002, 09:13 AM
بالأمس البعيد كنت من أشد المعارضين لفكرة تعريب الطب ، واليوم أصبحت من أشد المتحمسين لها .
أذكر في أوائل الستينات عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا أن صدر قرار سياسي سيادي بتعريب دراسة الطب ، وقد أثار صدور هذا القرار دهشة الجميع ، واعتقدنا أنه بداية النهاية ، وأن تنفيذ هذا القرار سيؤدي إلى تدهور العملية التعليمية الطبية في مصر ، والحق يقال أن قلة قليلة هي التي استجابت لهذا القرار أذكر منهم بكل خير أستاذنا الدكتور/ أحمد البطراوي الذي بدأ في تعريب التشريح ، وأستاذنا الدكتور/ محمد سليمان في تعريب علم الطب الشرعي ، إلا أن الظروف قد تغيرت بانفصال الإقليم السوري الشمالي عن الإقليم الجنوبي المصري فماتت الفكرة قبل أن تولد .
وفي الواقع كان لتخوفنا من قرار تعريب الطب أسباب عديدة أهمها : -
1 ) أستاذ المادة الذي درس الطب بالإنجليزية ، وحصل على دراساته العليا بالإنجليزية ، ودرس علمه بالإنجليزية لعشرات السنين ، هل في استطاعته بين ليلة وضحاها أن يدرس مادته باللغة العربية وهو فقير فيها أصلاً ؟ ! ! ففاقد الشيء لا يعطيه .
2 ) كيف نتابع التطور العلمي المذهل ؟ والمجلات العلمية والمراجع الطبية معظمها باللغة الإنجليزية ؟ ! !
3 ) كيف نشارك في المؤتمرات العلمية الدولية ونحن لا نجيد لغة المتحدثين بها ؟
4 ) هناك بعض المصطلحات العلمية التي ترجمت باللغة العربية فجاءت بألفاظ فظة من الصعب استيعابها ؛ مثل البنكرياس ( المعثكلة ) ، والهيموجلوبين ( اليحمور ) ... إلخ .
وتطورت الأحداث ، وربما زاد نضجنا فأعدنا الدراسة ، واكتشفنا أن ما كان ينظر إليه بالأمس على أنه المستحيل أصبح اليوم سهلاً ميسوراً ، فأعدنا التفكير بهدوء .
بعد أن طرح على الساحة موضوع تدريس الطب باللغة العربية مرة أخرى تبين لنا الحقائق التالية : -
1 ) إن معظم دول العالم تدرس الطب بلغتها ؛ فالإنجليزي يدرس الطب بالإنجليزية ، والفرنسي بالفرنسية ، والألماني بالألمانية ، والأسباني بالأسبانية ، والصيني بالصينية ، والياباني باليابانية ... إلخ .
حتى اللغات المنسية والشبه المنقرضة مثل العبرية تستخدمها إسرائيل في تعليم طلابها بها ، فهل نحن أقل شأناً من كل هؤلاء ؟؟ كلا ... بل يجب علينا أن نفخر بلغتنا الأم وهي لغة يعلم الجميع مدى ثرائها في التعريف والتعبير ، والتاريخ شاهد على ذلك .
هل نسينا أن علماء العرب القدامى قدموا للطب الحديث كثيراً من المراجع العلمية القيمة باللغة العربية ؟ وأن النهضة الأوربية الحديثة جاءت بعد النهضة العربية .
في الواقع لم يبق في العالم سوى عدد قليل من الدول لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة لا تزال تدرس الطب بلغة المستعمر بدلاً من اللغة الأم .
2 ) بعد التطور المذهل في طرق الاتصالات والترجمة والطبع أصبحت مشكلة المراجع العلمية يسيرة وهينة ؛ فكلنا نعلم أن هناك كثيراً من المجلات العلمية الدورية تظهر بأكثر من لغة ، فالمقالة التي تنشر اليوم بلغة ما ممكن أن تترجم فوراً إلى اللغة العربية لتكون بين يدي الأطباء العرب في اليوم التالي ، وهنا يأتي دور جامعة الدول العربية فعليها أن تتبنى فكرة الاتفاق مع دور النشر العالمية لإضافة اللغة العربية إلى اللغات التي يترجم إليها كل جديد في العلم .
3 ) إن العالم العربي غني برجاله ، وكل قطر شقيق يضم مجموعة كبيرة من العلماء القادرين على تأليف الكتب والمراجع العلمية باللغة العربية ، وسوريا الشقيقة رائدة في هذا المجال ، وعندنا في مصر أذكر بكل فخر الأخ الصديق محمد الرخاوي وبصمته على تعريب علم التشريح واضحة للعيان .
وأقترح أن يجتمع رؤساء الأقسام المعنيين في كليات الطب المختلفة لتأليف الكتب الخاصة بمادتهم العلمية باللغة العربية ، ويا حبذا لو تم تبادل هذه المراجع بين كليات الطب العربية المختلفة .
4 ) ليس معنى أن يدرس الطب باللغة العربية أن نهمل معرفة لغة أجنبية ، لذا يتحتم تدريس اللغة الإنجليزية في جميع سنوات الدراسة الطبية ، وأن يوضع مقرر مكثف لذلك يقوم بتدريسه أساتذة متخصصون من كليات الآداب أو الألسن مثلاً فيصبح خريج الطب الدارس باللغة العربية متمكناً تماماً من اللغة الإنجليزية ، وبالتالي يمكن له حضور الندوات والمؤتمرات العالمية .
5 ) أعلم تماماً أن هناك لجاناً فنية متخصصة تقوم بترجمة المصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية ، وأعلم أن النية متجهة لتبسيط الأمور واستخدام نفس الألفاظ العلمية الأجنبية الدارجة في عملية تعريب الطب ؛ فمثلاً البنكرياس يبقى البنكرياس ، والهيموجلوبين هو الهيموجلوبين .
وهنا أجد لزاماً علي أن نرد على الزملاء الذين ينتقدوننا في استخدام بعض المرادفات العلمية العربية ؛ فأرد عليهم وأقول إن المسألة تعود لا أكثر ولا أقل فهناك في اللغة الأجنبية ألفاظ لا تقل غرابة مثل ( Levator Labii Superioris alaeque nasi ) ! ! .
الإخوة والأخوات :
هل نسينا أننا درسنا مبادئ الطب باللغة العربية أثناء دراستنا في المدارس الثانوية ، وتفهمناها وقبلناها وتفوقنا فيها .
هل نسينا عندما انتقلنا إلى الجامعة وبدأنا دراسة الطب بالإنجليزية استغربنا الموقف ، وكان علينا أن نترجم المعلومة الإنجليزية إلى العربية أولاً لكي نستوعبها .
المشكلة ليست في تعريب الطب بل المشكلة في التعود على تعريب الطب .
هل نحن أقل ذهناً وقدرة من معظم دول العالم التي تدرس الطب بلغتها الأصلية .
لقد كنت بالأمس من أشد المعارضين لتعريب الطب ، واليوم أنا من أشد المتحمسين خاصة بعد أن زالت الظروف والعوائق التي كانت تواجهنا في الماضي .
لي أمل فرجاء أن يؤخذ هذا الموضوع بهدوء ، وأن يتم تطبيقه تدريجياً ، فيجب أن يقتنع الجميع لكي ينجح المشروع إذ إن هناك أصواتاً قوية مازالت تعارض بإصرار فكرة تعريب الطب .
أخيراً وليس آخراً فالقرار علمي يجب أن ينبع من القاعدة وليس من القمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم الأستاذ الدكتور : ( خيري أحمد سمرة )
أستاذ جراحة المخ والأعصاب ــ عميد كلية طب قصر العيني ( سابقاً )
المصدر : ( مجلة تعريب الطب ) (http://www.acmlnet.org/conf13.htm)
أذكر في أوائل الستينات عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا أن صدر قرار سياسي سيادي بتعريب دراسة الطب ، وقد أثار صدور هذا القرار دهشة الجميع ، واعتقدنا أنه بداية النهاية ، وأن تنفيذ هذا القرار سيؤدي إلى تدهور العملية التعليمية الطبية في مصر ، والحق يقال أن قلة قليلة هي التي استجابت لهذا القرار أذكر منهم بكل خير أستاذنا الدكتور/ أحمد البطراوي الذي بدأ في تعريب التشريح ، وأستاذنا الدكتور/ محمد سليمان في تعريب علم الطب الشرعي ، إلا أن الظروف قد تغيرت بانفصال الإقليم السوري الشمالي عن الإقليم الجنوبي المصري فماتت الفكرة قبل أن تولد .
وفي الواقع كان لتخوفنا من قرار تعريب الطب أسباب عديدة أهمها : -
1 ) أستاذ المادة الذي درس الطب بالإنجليزية ، وحصل على دراساته العليا بالإنجليزية ، ودرس علمه بالإنجليزية لعشرات السنين ، هل في استطاعته بين ليلة وضحاها أن يدرس مادته باللغة العربية وهو فقير فيها أصلاً ؟ ! ! ففاقد الشيء لا يعطيه .
2 ) كيف نتابع التطور العلمي المذهل ؟ والمجلات العلمية والمراجع الطبية معظمها باللغة الإنجليزية ؟ ! !
3 ) كيف نشارك في المؤتمرات العلمية الدولية ونحن لا نجيد لغة المتحدثين بها ؟
4 ) هناك بعض المصطلحات العلمية التي ترجمت باللغة العربية فجاءت بألفاظ فظة من الصعب استيعابها ؛ مثل البنكرياس ( المعثكلة ) ، والهيموجلوبين ( اليحمور ) ... إلخ .
وتطورت الأحداث ، وربما زاد نضجنا فأعدنا الدراسة ، واكتشفنا أن ما كان ينظر إليه بالأمس على أنه المستحيل أصبح اليوم سهلاً ميسوراً ، فأعدنا التفكير بهدوء .
بعد أن طرح على الساحة موضوع تدريس الطب باللغة العربية مرة أخرى تبين لنا الحقائق التالية : -
1 ) إن معظم دول العالم تدرس الطب بلغتها ؛ فالإنجليزي يدرس الطب بالإنجليزية ، والفرنسي بالفرنسية ، والألماني بالألمانية ، والأسباني بالأسبانية ، والصيني بالصينية ، والياباني باليابانية ... إلخ .
حتى اللغات المنسية والشبه المنقرضة مثل العبرية تستخدمها إسرائيل في تعليم طلابها بها ، فهل نحن أقل شأناً من كل هؤلاء ؟؟ كلا ... بل يجب علينا أن نفخر بلغتنا الأم وهي لغة يعلم الجميع مدى ثرائها في التعريف والتعبير ، والتاريخ شاهد على ذلك .
هل نسينا أن علماء العرب القدامى قدموا للطب الحديث كثيراً من المراجع العلمية القيمة باللغة العربية ؟ وأن النهضة الأوربية الحديثة جاءت بعد النهضة العربية .
في الواقع لم يبق في العالم سوى عدد قليل من الدول لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة لا تزال تدرس الطب بلغة المستعمر بدلاً من اللغة الأم .
2 ) بعد التطور المذهل في طرق الاتصالات والترجمة والطبع أصبحت مشكلة المراجع العلمية يسيرة وهينة ؛ فكلنا نعلم أن هناك كثيراً من المجلات العلمية الدورية تظهر بأكثر من لغة ، فالمقالة التي تنشر اليوم بلغة ما ممكن أن تترجم فوراً إلى اللغة العربية لتكون بين يدي الأطباء العرب في اليوم التالي ، وهنا يأتي دور جامعة الدول العربية فعليها أن تتبنى فكرة الاتفاق مع دور النشر العالمية لإضافة اللغة العربية إلى اللغات التي يترجم إليها كل جديد في العلم .
3 ) إن العالم العربي غني برجاله ، وكل قطر شقيق يضم مجموعة كبيرة من العلماء القادرين على تأليف الكتب والمراجع العلمية باللغة العربية ، وسوريا الشقيقة رائدة في هذا المجال ، وعندنا في مصر أذكر بكل فخر الأخ الصديق محمد الرخاوي وبصمته على تعريب علم التشريح واضحة للعيان .
وأقترح أن يجتمع رؤساء الأقسام المعنيين في كليات الطب المختلفة لتأليف الكتب الخاصة بمادتهم العلمية باللغة العربية ، ويا حبذا لو تم تبادل هذه المراجع بين كليات الطب العربية المختلفة .
4 ) ليس معنى أن يدرس الطب باللغة العربية أن نهمل معرفة لغة أجنبية ، لذا يتحتم تدريس اللغة الإنجليزية في جميع سنوات الدراسة الطبية ، وأن يوضع مقرر مكثف لذلك يقوم بتدريسه أساتذة متخصصون من كليات الآداب أو الألسن مثلاً فيصبح خريج الطب الدارس باللغة العربية متمكناً تماماً من اللغة الإنجليزية ، وبالتالي يمكن له حضور الندوات والمؤتمرات العالمية .
5 ) أعلم تماماً أن هناك لجاناً فنية متخصصة تقوم بترجمة المصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية ، وأعلم أن النية متجهة لتبسيط الأمور واستخدام نفس الألفاظ العلمية الأجنبية الدارجة في عملية تعريب الطب ؛ فمثلاً البنكرياس يبقى البنكرياس ، والهيموجلوبين هو الهيموجلوبين .
وهنا أجد لزاماً علي أن نرد على الزملاء الذين ينتقدوننا في استخدام بعض المرادفات العلمية العربية ؛ فأرد عليهم وأقول إن المسألة تعود لا أكثر ولا أقل فهناك في اللغة الأجنبية ألفاظ لا تقل غرابة مثل ( Levator Labii Superioris alaeque nasi ) ! ! .
الإخوة والأخوات :
هل نسينا أننا درسنا مبادئ الطب باللغة العربية أثناء دراستنا في المدارس الثانوية ، وتفهمناها وقبلناها وتفوقنا فيها .
هل نسينا عندما انتقلنا إلى الجامعة وبدأنا دراسة الطب بالإنجليزية استغربنا الموقف ، وكان علينا أن نترجم المعلومة الإنجليزية إلى العربية أولاً لكي نستوعبها .
المشكلة ليست في تعريب الطب بل المشكلة في التعود على تعريب الطب .
هل نحن أقل ذهناً وقدرة من معظم دول العالم التي تدرس الطب بلغتها الأصلية .
لقد كنت بالأمس من أشد المعارضين لتعريب الطب ، واليوم أنا من أشد المتحمسين خاصة بعد أن زالت الظروف والعوائق التي كانت تواجهنا في الماضي .
لي أمل فرجاء أن يؤخذ هذا الموضوع بهدوء ، وأن يتم تطبيقه تدريجياً ، فيجب أن يقتنع الجميع لكي ينجح المشروع إذ إن هناك أصواتاً قوية مازالت تعارض بإصرار فكرة تعريب الطب .
أخيراً وليس آخراً فالقرار علمي يجب أن ينبع من القاعدة وليس من القمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم الأستاذ الدكتور : ( خيري أحمد سمرة )
أستاذ جراحة المخ والأعصاب ــ عميد كلية طب قصر العيني ( سابقاً )
المصدر : ( مجلة تعريب الطب ) (http://www.acmlnet.org/conf13.htm)