عرض مشاركة واحدة
قديم 02-04-2011, 12:40 AM   #38
مشرفة سابقة
 
الصورة الرمزية يمامة الوادي
 
تم شكره :  شكر 10,916 فى 3,630 موضوع
يمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضويمامة الوادي نسبة التقييم للعضو

 

رد: من مذكرات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أكثر من رائعة

درس في التواضع:
وكان الطنطاوي على ما كان له من شأن، وما بلغ من مكانة شديد التواضع، وإن كان شديد الصلف أمام أهل الغرور والتكبر، وقد بلغ من تواضعه أنه كان يذكر أخطاءه في بعض المواقف في أثناء ذكرياته، كما كان تواضعه يدفعه إلى الاعتراف بالخطأ أمام طلابه، لا يَعُد ذلك منقصة في شخصه، ولا نيلاً من كرامته، ومن ذلك قوله: "وقد وقع لي أول قدومي مكة المكرمة أن جاء ذكر حكم فقهي في مسألة من المسائل في مذهب الإمام أحمد، فذكرت ما أعرفه، فقال طالب من الطلاب: إن الحكم في المذهب على غير هذا، فقلت له: درست الفقه في المدرسة المتوسطة، ثم في الثانوية وأنت لم تتعلم بعد حكم هذه المسألة، وأطلت لساني عليه، وكان مهذباً فسكت، فلما رحت إلى الدار، رجعت إلى كتب الفقه، فإذا الذي قاله الطالب هو الصواب، أفتدرون ماذا صنعت؟!. جئت من الغد فقلت للطلاب، سمعتم بالأمس ما قلته لأخيكم، وقد تبين لي أن الحق معه، وأنني أنا المخطئ؛ لذلك أعتذر إليه أمامكم، أعتذر إليه مرتين: مرة لأني خطَّأته وهو المصيب، ومرة لأنني خالفت أخلاق العلماء، فأطلت لساني عليه، وظلمته بما أسأت به إليه.
وقد كان درساً عملياً أفاد الطلاب أكثر مما تفيدهم الدروس النظرية التي ألقيها عليهم
قوة في الحق:

وكان الشيخ الطنطاوي على ميله للفكاهة، وعلى ما يتمتع به من خفة الروح في مقدمة العلماء التزاماً بالإسلام، وتخلقاً بآدابه، وكان في حقيقته شديد التقوى لله، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا سطوة غاشم، وكانت التقوى لله تجعله أحياناً كالأسد في جرأته وإقدامه، وتجعله أحياناً أخرى من أرق الناس قلباً ومن أكثرهم خشية لله، وتواضعاً له، وكان عندما يخطب في الناس ينقل إليهم ما يشعر به في قلبه، بل في كِيانه كله فيكون من ذلك مشاركة وجدانية وتأثير عميق في الجماهير التي تستمع إليه.

قصة الاستسقاء:

ولننظر شاهداً عما قلناه هنا في قصة الاستقساء التي حدثت في دمشق سنة 1380هـ/ 1960م وسوف نقتطف شذرات مما جاء في حديثه عن هذه القصة، ومما قاله في خطبته يوم الاستسقاء.
قال الشيخ الطنطاوي: "مر الشتاء كله، ولم تنزل الأمطار، بل لقد تجرأ واحد من الحكام يومئذ فقال في خطبة له ألقاها: "إننا سنتخذ من (التكنولوجيا) وسائل جديدة تغنينا عن استجداء السحاب، وانتظار المطر. وكانت كلمة فاجرة من عبد ضعيف مدع لا يستطيع إذا حبس الله الغيث أن ينزله، ولا إذا غيض الله العيون أن يفيضها، ولا يملك لنفسه، فضلاً عن أن يملك لغيره نفعاً ولا ضراً".

ودعا العلماء أهل دمشق إلى صلاة الاستسقاء في سفح جبل قاسيون. وقال الشيخ يصف ذلك بقوله: "غص السفح كله بالناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، وصلينا صلاة الاستسقاء، ثم قمت بعدها، فخطبت خطبة لم أتعمد فيها بلاغة اللفظ، ولم أنظر فيها إلى عمق التأثير، ولم أطلب إعجاب الناس، بل لقد حاولت بمقدار ما استطعت أن أنساهم، وأن أوجه قلبي كله لله، ثم تكلم السيد مكي الكتاني - رحمه الله - فكان كلامه أعظم من كلامي؛ لأنه كان من أرباب القلوب، وإن لم يكن من كبار العلماء. فبلغ كلامه من نفوس الناس ما لم يبلغ كلامي، وسيطرت على الجميع عاطفة إيمانية عجيبة، ليست من صنعي ولا من صنعه، ولم تكن لخطبته ولا لخطبتي، ولكنها نفحة من نفحات الله، فلم تكن تسمع إلا دعاء مختلطاً بنشيج، وبكاء يخالطه دعاء.
وكانت ساعةً ما وجدت في حياتي مثلها إلا مرات معدودات في التسع والسبعين سنة التي عشتها، كانت القلوب كمدخرات (بطاريات) فارغة.
فشحنها هذا الموقف بالطاقة شحناً كاملاً، لقد أحسسنا المذلة أمام الله، فجعلنا نُحس العزة بالله، لم نعد نرجو في تلك الساعة غيره، ولا نخاف غيره، ولا نتوجه إلا إليه، ولا نطلب إلا منه".
ورجعنا بنفوس غير التي جئنا بها، ومرت الجمعة، ومر السبت والأحد والاثنين والسماء على حالها، زرقاء ما فيها مزنة سحاب، والمستهزئون يتكلمون، والشامتون لا يسكتون، فلما كان يوم الأربعاء بعد خمسة أيام من صلاة الاستسقاء قال الكريم: خذوا. وكان غيث عام استمر إلى يوم الجمعة
دعوة بظهر الغيب:

قبساً من مناجاته لنفسه ومناجاته لربه، فهو يقول في واقعية مؤثرة ومكاشفة صادقة: "إني من ستين سنة، أعلم وأكتب وأخطب وأحدث. اللهم لا أدعي أن ذلك كله، كان خالصاً لوجهك، وليْتَه كان، ولكني بشر أطلب ما يطلبه البشر من المال الحلال ويسرني المديح، وتستهويني متع الدنيا، فهل يضيع ذلك جهدي كله؟ هل أخرج فارغ اليدين لم أنل شيئاً من الثواب؟ إني لأمتحن نفسي أسائلها كل يوم، هل كانت الدنيا وحدها هَمِّي؟ لو عرض علي أضعاف ما آخذه الآن على مقالاتي وكتبي وأحاديثي، على أن أجعلها كلها كتباً ومقالات وأحاديث في الدعوة إلى الكفر. هل كنت أرضى؟ فليست إذن كلها للدنيا، كما أنها ليست مبرأة من مطالب الدنيا.

قلت لكم: إني أفكر في الموت، وأعرف أني على عتباته، إنه يمكن أن أعيش عشرين سنة أخرى كما عاش بعض مشايخي، وكما يعيش اليوم ناس من معارفي، ولكن هل ينجيني ذلك من الموت؟! فما الذي أعددته للقاء ربي؟! اللهم إني ما أعددت إلا توحيداً خالصاً خالياً من الشرك، وإني ما عبدت غيرك، ولا وجهت شيئاً مما يُعَد عبادة إلى سواك، وإني أرجو مغفرتك، وأخشى عواقب ذنبي. فاللهم ارحمني واغفر لي"[12].

ويقول في مناجاة أخرى لله يختمها بطلب الدعاء من القراء: "يا رب أيقظ قلوبنا، لنتوب فتغفر لنا، فإني امرؤ قسا قلبه، حتى لتمر به المواعظ فلا يتعظ، ويمر هو بالعبر فلا يعتبر، وقد صرت على أبواب القبر، قد جاوزت الثمانين، فيا ربي متى يستقيظ ضميري، وينتبه إيماني، فأعود إليك ولا مفر من العودة إليك؟!
فيا أحبائي القراء، أسألكم الدعاء، فما لي عمل أقبل به على الله إلا رجائي بكرمه، ثم بدعائكم لي - إن كنتم تحبونني - بظهر الغيب"[13].

اللهم ارحم شيخنا وأديبنا الطنطاوي كفاء ما قدم للإسلام ولأمه الإسلام.

يمامة الوادي غير متصل   رد مع اقتباس