|
جدتي
ماتت جدتي في مطلع هذا العام وهي تصارع المرض لمدة شهور.
كنت اعجِل للذهاب لزيارتها بعد ان تيقنت من انها كانت تعيش أيامها الأخيرة. هاتفتُها أن ياحبيبتي الغالية اتلهف لرؤياك لكن أسرتي مسؤولة مني وأنا باقية. لم تكن تقدر على الحركة لسنوات وزادها الالم واصبحت تتكلم بعناء. فجاوبتي الحكيمة, أنّ يا بنيتي هوِني عليك فأنا ما ورائي شئ والعطلة آتية. أشغِلي نفسك بغيري سأنتظر لقائك ها هنا فلا تقلقي. وفت جدتي وانتظرت مجيئي كي تمت أسبوعا بعد رؤيتي. عندما غادرت غرفتها آخر مرة كانت نائمة بعد أن اكلتها بيدي واضحكتها بنُكتي السخيفة. نظرت إليها مليًا أشبع عيناي منها ثم ذهبت. كنت استقبل السنة الجديدة بكل تفاؤل حتى رنّ هاتفي على بكاء أمي وهي تبلغني أن جدتي انطفأت هذا الصباح وهي تضحك. انتقلت إلى رحمة الله وهي سعيدة. تستغربون؟ جدتي إنسانة بسيطة عاشت حياة قاسية لكنها كانت سعيدة. لم تعرف أمها يوما ومات أبوها وهي بنت العشر سنوات, إن لم تخنِ الذاكرة. وبعد قهر إمرأة الأب إنتقلت لتخدُم ببيت خالِها الذي إحتواها بإسم الحنان ورعاية الأيتام. كانت تحدثني دائما على وضع المرأة أنذاك. لم يكن لها رأي بل لم يكن يسمع لها صوت. سارعت خالتها لنجدتها ويا ليتها لم تفعل. عجلت بتزويجها لإبنها كي تتنتشلها من الهوان الذي كانت تعيشه ولكن فرحة جدتي لم تدم طويلا. فما زالت حِنة عرسها في يديها حتى حكمت عليها خالتها بالإعدام النفسي. كانت جدتي تبتسم وهي تروي لي كيف طردتها من بيتها. قالت غيرتها كأم أنستها أني إبنت أختها. طبعا أنا بنت الحريات والتقدم قاطعتها قائلة: وما كان دور زوجك في القصة؟ وأنا أتلون غضبا.. أطاع أمه طبعا, بنيتي.... في وقتنا لم نكن نَرُد كلمة والدينا ولو للموت. فسكت؟ عادت المسكينة لبيت خالها, يُتم فطلاق. بعد مدة وبإنتهاء العدة تقدم لخطبتها رجل بسيط, الذي هو جدي مستقبلا. هي التي كانت بنت عزٍ في حياة أبيها بالمال والخدم والحشم. قبِلت دون نقاش وانتقلت إلى بيت زوجها الثاني على أمل أن تبدأ حياة طيبة. هل ودعت معاناتها ولو قليلا؟ بيت جدي كان بيت أسرة كبيرة من الإخوة والأولاد. كانت تطبخ, تغسل, تربي الأولاد, تغربل, تصنع الصوف, تعتني بالمواشي, تحّظر الماء من البئر يا إلاهي ماذا أيضا... قالت: ما لا تقدر عليه بنت اليوم. فضحكت. فقدت من أولادها الكثيرين بسبب المرض وسوء المعيشة, إبان الإستعمار. وبقي منهم أربعة. الأخير ولدته بعد موت أبيه بأشهر وسمي سعيدا لا أعلم لماذا سمي هكذا و ما مدى السعادة وهو يرى الدنيا يتيمًا, لكن قدّر الله ما شاء فعل. وبدأت قصة جدتي مع اليتم ثانيةً وكأن اليتم إفتقدها فعاد ليواسيها. اشتغلتُ خياطة وكنت اخيط على نور الشمعة كي لا أشعل نور القنديل, قالت. لا تقولي أنّ عيناي كانتا هكذا فقد كان لي نصيب من الجمال قبل شيبتي. وتبقى المرأة إمرأة تُظهر انوثتها بدلالٍ حتى الشيخوخة. رفعت معناوياتها بكذبة بيضاء, علها تسامحني ومن قال انك لم تعودي جميلة؟ لو خرجت للسوق لخطبك أحدهم من ولدَيك وسبقتني إلى عش الزوجية. ضحكت جدتي حتى تراءت لي أسنانها الذهبية. تعبت كثيرا كي يواصل أبناؤها التعليم وبدأو يعملون فتنفست جدتي الصعداء ,كي يخرجوها من ظلمة الفقر ونقص الحاجة. و وُلدت أنا... كانت دائما ورائي تصلح حالي المائل على قولها كي أكون البنت و الزوجة و الأم الصالحة. تعلمت منها كثيرا لكني لم أتعلم الصبر. ربما لأني عشت ولا زلت أعيش حياة كريمة. جدتي لم تكن تملك شئ لكنها كانت سعيدة, حملت هم اولادها ثم تلتها أعباء أحفادها فلم ترتاح قليلا, لكن البسمة لم تغادر وجهها حتى وهي تبكي. ما سر ذلك؟ ماذا كانوا يملكون هم ولا نملك نحن؟ أنا عند أول هزة أنهار و هي قاومت الهزات بشموخ وصبر رهيب. بدون أي شئ وبرغم كل شئ, عشتي ياجدتي سعيدة. املك ماأريد و أنعم الله علي من الخير الكثير لكني لا زلت اسعى وراء السعادة |
رد: جدتي
-
ما كانت السعادةُ بالمادةِ يومًا , بل إن مكمَنها في صدر جدتكِ -رحمها الله - و في صدرك وصدري وفي صدر كل أحد ... نحنُ من يختلقها , من يفتعلها , من يُنشئها ... القلب المُعلق بالله وحده جنّته في صدره . يقول شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمهُ الله تعالى وهو مسجون في سجن القلعة بدمشق, وقد لاقى من العذابِ ما لاقى : ( ماذا يصنع أعدائي بي ؟ إن سجني خلوة ، ونفيي سياحة ، وقتلي شهادة ، إن إيماني في قلبي ، وقلبي بيد ربي) فما أكبرُ من ذلك ؟ شُكرًا لحرفك الكبير وسردك القصصي الرائع يا أشواق , و اطعمِي حرفكِ قراءةً ... ثمَّ إني أعتذرُ عن مجيئي متأخرةً; فالوقت يأكلني . دُمتِ نهمةَ قراءةً . - |
رد: جدتي
قال تعالى (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) و قال تعالى ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ ) و قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أختي أشواق غفر الله لجدتك و والدينا و المسلمين لماذا الرعيل الأول سعدآ و صابرون و منهم جدتك لأنهم قريبون الى الله متسامحون يتوكلون على الله حق توكله اقويا بطاعة الله قال تعالى واستعينوا بالصبر و الصلاة لذالك نجدهم دائماً راضين بما قسم الله لهم شكراً غاليتي على موضوعك, قصه جمعت بين الصبر والقناعه و السعاده اسعدك المولى أعذريني على الإطاله |
رد: جدتي
جزيتي خيراً
و رحمة الله على جدتك |
رد: جدتي
اقتباس:
إضافة رائعة زادتني إعجابا أكبر بذاك الجيل. نعيش أحرارا و مسجونة أفكارنا, وعاشوا سجناء متحرري الفكر... أشكرك علي الرد يا كريمة. |
رد: جدتي
اقتباس:
"ألا بذكر الله تطمئن القلوب" صدقتي, الصبر مفتاح الفرج. لم تطيلي حبيبتي ,كان ردك ممتعا. أشكرك. |
رد: جدتي
اقتباس:
|
| الساعة الآن 01:38 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. موقع و منتديات سدير 1432 هـ - 1435 هـ
جميع ما ينشر في المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأي القائمين عليه وإنما يعبر عن وجهة نظر كاتبه