الصهيل
د. لانا مامكج
تسألها عن أحوالها بشكلٍ عابر ، فتجيب : أحوالي تمام ، لا أريد من الدنيا أكثر مما لدي ، أنا فعلاً سعيدة... سعيدة جدّاً ! تقول هذا وتتركك واجماً مذهولاً أمام إجابةٍ غير متوقّعة ، إذ اعتدنا على إجاباتٍ أكثر اقتصاداً واختصاراً ونمطيّة ، علماً بأنه لو بادر الآخر بالإمعان في السؤال.. كيف أنت ؟ كيف أحوالك ؟ فقد نجد أنفسنا ، إزاء الإلحاح ، في شروعٍ للشكوى ، فالقائمة ، التي تستدعي التذمّر والتأفف، بالنسبة لنا، طويلةٌ طويلة تبدأ بالخاص وتنتهي بالعام... وقد لا تنتهي أبداً ! المهم أن السيّدة أعلاه تقول إنها تعيش أجمل مراحل عمرها ، لأنها عقدت صداقةً مع الحياة ، حسب تعبيرها ، وقرّرت أن تستمتع بكل لحظة . وقد تستفزّك للنظر مليّاً في عينيها محاولاً التلصّص إلى روحها لاكتشاف سر التوهّج... فتقول لك بذكاء كأنها عرفت مرادك.. أنا أكثر إمرأة عانت من المشاكل ، حياتي المهنيّة لم تكن سهلة ، لقد حوربت بالغيرة والحقد الأعمى والحسد ، وتعرّضت لمحاولات النسف والحرق والخسف... لكني صمدت ثم تضيف وهي تضحك ببساطة أنا عنيدة جدّاً !
ثم تنظر هي في عينيك هذه المرّة لتضيف.. تحيّرك حياتي الخاصّة أليس كذلك ؟ لقد أحببت وتزوّجت أو تهيّأ لي أني أحببت ، ثم اكتشفت أن الحب خرافة... رغم ذلك ، مازلنا نعيش معاً ، تعرّض هو إلى كذا حالة ضعف ونزوة... أعرفها كلها ، أعرفه أكثر من نفسه ، لكن لم أفسح للحظة (فورانٍ هرمونيّة) بأن تخرب بيتي... لقد فهمته فقط ، لا أكثر ولا أقل ثم تضيف بسرعة أنا أيضاً لست بالمثاليّة المتوقّعة ، من منّا كذلك ؟ لكني تعلّمت قاعدة ذهبيّةً واحدة مفادها أنّ مشاعري ليست ملكي ، لكن سلوكي ملكي... وهكذا ، ما خرجت قط عن المسار الآمن في حياتي وفي تصرّفاتي... وقبل أن تلتقط أنفاسك من هول الصراحة تضيف أبناؤنا أوّلاً ، وأنا وهو ثانياً ، إذا إتّفق الزوجان على الأولويّات تجاوزا العديد من المطبّات !
وتتركك مبتسماً ببلاهة لتقول : الحياة أبسط مما تظنون ، وهي مليئة بالحب ، فأنا أحبّ في كل شخصٍ ما أريد أن أحبّ فيه ، لي عينٌ يقظة طوال الوقت ، تلتقط الجميل والنبيل والباهر والأصيل والإنساني في الآخر... وعيني الأخرى مغمضة دائماً عن أشياء فيه أقرّر ألا أراها ! تقول كل هذا ، وتتركك حائراً... محاولاً تقييم الموقف ، وتقييم المرأة... لتقول هي فجأة اسمع ، لقد وصلت الستين... وأكرّر لك ولكل الدنيا : أنا أعيش أجمل فترات حياتي... وأشعر أني شابّةُ أكثر من كل شابّات هذا الكوكب البائس ! وتتركك ساهماً مرّةً أخرى ، ثمّ تقول بانفعال.. ابتسم أرجوك ، اعذرني الآن ، عندي موعد هام ، حفيدتي بانتظاري ! وتتركك مشدوهاً لتختفي من أمامك كشهابٍ لامع... كفراشةٍ ربيعيّة... كفرسٍ جموح