عرض مشاركة واحدة
قديم 08-03-2011, 11:42 PM   #57
عضو مميز جداً
 
تم شكره :  شكر 16431 فى 4678 موضوع
أسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضو

 

رد: مـذّكـرات مجهول !!

***الحلقة الرابعة***




بعد لأيٍ وصلتُ إلى صديقي ، ما الطريق طويلةٌ يا سيداتُ ، ولا المسافة بعيدةٌ يا آنساتُ ، بين داري ودار صديقي ، لكنها الأحداث المُهمّة يا سادة ، تأتي من غير ما توقّع ، فتُطيل القصير ، وتمُدُّ الظل لتجعله أطول مما هو أطول منه ، وهذا لعمر الله سِرٌّ من أسرار الأُنس في مستقبل الأيام ، حين تسترخي في عصرِ يومٍ كادح ، فتجلس مادّاً قدميك ، على يمينك أمُّ العيال ، وعلى شمالك المُتّكأ ، وأمامك أبناؤك يكدحون في فرقعة أصابع قدميك وقد وقفتْ كأنها عشرة ضِبابٍ تُطِلُّ من جحورها ! فيستدِرُّ المرء منّا ضرع الماضي ، فيحْلب منه ذكرياته ، تستوي في ذلك ذكريات الفرح وذكريات التَّرَح ، فكلُّها جميلةٌ ، وكلها مؤثرة ، وكلها تأريخٌ شخصيٌّ ، تتشكّل من خلاله ملامح الشخصية ، تلك الشخصية العجيبة التي تتقلّب بحسْب تقلّب الأحوال ؛ فقراً وغِنى ، مرضاً وصحّة ، كدْحاً وراحة ..



ركب معي صديقي وقد مال الغضب بحاجبيه وتقاربا كأنهما في زيارة خاصة، قال ما الذي أخّرك عني؟ قلت بعد أن التفتُّ إلى الخلف مبتسماً ابتسامة الفِتْنة أنظر إلى الحلمنتيشي : لقد أخرني عنك هذا الـ ... ، فقطع الحلمنتيشي ذو الأنف كلامي بأن هرع يضع كلتا يديه على فمه من تحت أنفه ، قال صديقي ما شأنك؟ تابعتُ فقلت : لقد أخرني عنك هذا الحَا الحا الحا ، فكاد الحلمنتيشي يموت قبل أن أُكمل كلمتي : لقد أخرني عنك هذا الحَرُّ الشديد ، ففُرِّج عن الحلمنتيشي وأنفه الذي انتفخ دماً وكاد ينفجر من الرُّعب..


انطلقنا في رحلتنا نحن الثلاثة ؛ أنا وصديقي وذو الأنف ، فكُنا بياضاً في بياضٍ في أنوف ، يحمل بعضنا بعضاً ، مرةً أتحدّث أنا ومرة يتحدث صديقي ، حتى إذا جاء دور الحلمنتيشي في الحديث قال اعذروني فإن معي أنفلونزا الأنوف ! لكنني سأكون مستمعاً جيداً لكما ، انظروا يا رعاكم الله كيف مكر بنا ذو الأنف فأخذ أسهل المهام ، ذكّرني صنيعه هذا بصنيع ذاك البخيل الكسول حين قال لصاحبه :
منك الدقيق ومني النار أوقدها
--------------- والماء مني ومنك السمنُ والعسلُ


وضعنا أقدام السيارة على أول خطوة في ألف ميلٍ مغادرين المدينة ، وحدِّث يا عزيزي عن المعاناة والألم ولوعة الاشتياق ولمّا نغادرها إلاّ منذ دقائق ، قد تقولون إن هذه المعاناة والألم والاشتياق يحدث لكل من غادر وطنَه ومرتع صِباه! فمثلُك مثلُهم وما تختلف عنهم في المشاعر وما يختلفون عنك! عفواً يا سادة واعذروني إن خطّأتُكم كلّكم أجمعين أكتعين أبصعين أبتعين ، فلا والله تستوي المدينة بغيرها ، ولا والله يكون الشوق كالشوق ولا الحب كالحب ولا الحنين كالحنين ، فإننا نغادر موطناً مشى عليه صاحب الإسراء والمعراج ، ونخلِّف وراءنا جسداً طاهراً ما خلق الله أكرم منه ، وزيادة على انتمائنا الديني وارتباطنا الإسلامي الذي نتساوى فيه مع من هو في أقاصي العالَم ، فإننا يا سادة نشعر برسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما هو حيٌّ بيننا ، نجتمع في رحابه ونجلس إليه في داره ، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ، نشعر بجِواره فلله من جارٍ لا أكرم منه جاراً ولا أحسن منه جواراً ..


لذلك اختلف الحنين والحب واختلفت المشاعر


بدأتِ الرحلة لقطع مسافة 848 كيلاً ، وبدأ الحديث في شتى المواضيع ، ولإني وصاحبي جامِيَّين حتى النخاع! أنا محترقٌ وهو متفحّم ، فقد بدأنا بتناول كبسة الصحوة على صحن الطريق ، العفو يا سادة سأدع الحديث عن هذا الجانب جانباً ، خشْية أن يأتينا من لا يفهم طبيعة تناولي الحديث في هذا الخصوص في هذه الحلقات ، فيقلبه على رؤوسنا ، ويكفيني الصداع الذي ينتابني بين آنٍ وآن ، فلا طاقة لي بزيادة الصداع ، فليس الصداع كالخير فيقال : الزيادة في الصداع يحبوك صُداعين ، كما يقال الزيادة في الخير يعطيك خيرين ..


سلكْنا الطريق السريع إلى الرياض ، والذي تقطع فيه مسافة طويلة هي بالمئات من الكيلوات دون أن تمرّ على محطّة للوقود ، اللهم إلا إذا أردتَّ الدخول إلى القرى على شمالك ، ولا أدري السبب في خلوِّ المحطات على جنباته كسائر خلق الله من الطُرُق! بعد ساعتين من الانطلاق لاحظتُ ابتعاد الجبال عن ملاصقة الطريق، فكانت كلما أمعنّا في الانطلاق انفرجتْ عن الخط وتباعدتْ فذكّرتْني بشيءٍ ما !! ونحن بدْو الحجاز نعشق الجبال فنحن كما قال إقبال في بيته الشهير :
كُنا جبالاً في الجبال وربما
--------------- سرنا على موج البحار بحارا


إي والله ، فحين نرقى عليها فإننا الجبال فوق الجبال ، وحين نمشي بجانبها فنحن جبال تزاحمُ جبالاً منكباً بمنكب ، وحين نقدُم إليها فإننا الجبال تناطح أكفاءها !!


عجبتُ من المساحات الشاسعة بلا جبالٍ فحمدت الله مرتين ؛ أنْ منحنا في الحجاز جبالاً عند أنوفنا تستر عوراتنا عند حاجة البشر فقلت الحمد لله ، وحمدتُ الله مرة أخرى أن ابتلانا بهذه الجبال تضيق بسببها صدورُنا ..


أما عن المرة الأولى فإن الجبال في الحجاز متصّلةً ببعضها ، ومتقاربةً ومترادفة ، فستجد ما يسترك بكل يسرٍ وسهولة ودون عناء البحث عن كثيبٍ كما هي حال الذاهبين إلى نجد، فإن المحصور منهم ليجد عناءً ومشقّة في البحث عن كثيبٍ ، وربما سأل المارة من الضِّباب والجرابيع : أرأيتم كثيباً يسترنا ؟!


وأما عن الأُخرى ، فإننا بدْو الحجاز تقِلُّ فينا سعة الصدر ؛ نظراً للجبال التي تُضيّق علينا سيرنا ، فالأمواج المتلاطمة من الجبال جعلتْنا أسرع غضباً ، وأضيق صدراً ، وأقلّ صبراً ، بخلاف القاطنين في نجْدٍ وما جاورها ، فهم أحلَم وأبطأ غضباً ، وأوسع صدراً ، ولذلك تجد من عباراتهم عبارة (عَيِّنْ خير) ، أما نحن فتجد عندنا مثل عبارة (تعال بسرعة عساك العمى) ..


ومن أجل كثرة الجبال عندنا وقلة الجبال عندهم ، كانت الضِّباب تعشق ديارهم ، لإنها لو أتت عند جبالنا لما استطاعت أن تمشي بغير عُكازٍ ، ولأصابتْها أنزلاقاتٌ في غضاريفها ، فتخيلوا ضبّاً يمشي بعُكاز ! ولذلك عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (لم يكن بأرض قومي) ..


قال لي صديقي ورفيقي في سفري وقد مضى من الطريق جزءٌ من أربعين جزءاً : ألا أُناولك القهوة ؟ قلتِ هاتِها يا ساقي ، مشتاقة تُساق لمشتاقٍ ، هاتها ومعها بسكويت السنكرز والكِتكات والكراميلاّ ، وأنا من عُشّاق هذه الثلاثة ، وأظن أنها هي السبب في عدم امتلاكي منزلاً ! وذاك لما أدفعه فيها ، أما تناول بسكويت السنكرز مع حليب السعودية فهو الفياغرا بشحمه ولحمه!! جربوه فأنتم على المجرِّب ! ثم لمّا فرغتُ من البساكيت جمْع بسكويتٍ وتجمع أيضاً على بسكويتاتٍ وبِسكوتاتٍ ، جاء دور الشاي مع الفصفص واللوز ، أما الفصفص فنحن أهل المدينة متفنِّون فيه حدَّ الإبداع ، فمِنّا من يحثو في فمه قدْر نِصف كفِّ اليد من حبِّ الفصفص ثم يُخرجِه حبّةً حبّةً بعد أن ينزع منها لُبّها، أمّا اللُّبُّ فيتدحرج في البلعوم وأما غطاؤه فيُلفظ على الرصيف..


إلى الحلقة القادمة
إن شاء الله


أسد نجد غير متصل   رد مع اقتباس