عرض مشاركة واحدة
قديم 13-03-2011, 11:59 PM   #62
عضو مميز جداً
 
تم شكره :  شكر 16431 فى 4678 موضوع
أسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضو

 

رد: مـذّكـرات مجهول !!

الحلقة السابعة

أنخْنا الركائب باستراحة العَتْش ، وهي استراحة تبعد عن الرياض ثلاثة عشر كيلاً بعد المئة تقريباً ،
لمَ أرَ مثلها من قبلُ ، ففيها نُزُلٌ ، ومستوصف طبي ، بالإضافة إلى محطة وقودٍ ، ومسجدٍ جامعٍ ، ومطعم ،
ومحالّ تابعةٍ لمزرعته التي تكتنف الاستراحة ، حيث يبيع من مُنتجاتها الحليب واللبن والسمن وغير ذلك ..



وصلناها في تمام الساعة الحادية عشر ليلاً ، كان الجوّ بارداً وكأننا في زمهرير الشتاء ، دخلنا غرفتنا في النُّزُل ،
كنتُ مرهقاً فقد خرجتُ من الدوام ولم أنمْ ، وهذه عادة لي حين أريد السفر يطير النوم بحيث لا أراه بالعين المجردة ولا بالتلسكوب ،
وما إن أقبض على مقود السيارة للانطلاق حتى ينهمر علي النوم دُفعةً واحدةً ، وأبقى معه في عِراكٍ ولا أطرده إلا بالمغالبة وبشِقِّ الأنفس..



لذلك ما إن دخلتُ الغرفة حتى رميتُ نفسي على سريرٍ يا له من سرير! هو أشْبه ما يكون بصخرةٍ منبسطة، أو بجبلٍ قد مُدَّ ساقه ،
لكنه في ذلك الوقت على تلك الحال من النعيم العظيم ، ثم التحفت ببطّانيةٍ تنوء بالعُصبة أولي القوة! ما زلتُ بها أدعوها فتأبى المجيء ،
وأشدُّها فتشدُّني ، وأحملها فتتفلّتُ مني وتسقط ، حتى ضجرتُ فجذبتها بقدمها فانكشف ضعفها ،
فطاوعتْني وأسلمتْ نفسها إلى رجلٍ لا كالرجال! فنمتُ عليها ونامتْ علي ، نصفها تحتي ونصفي تحتها ,,,


نمتُ على تلك الصخرة المنبسطة التي تُدعى السرير ، إلى أن أيقظني صاحبي لصلاة الفجر ، يا له من نومٍ ما أهنأه وأسعده !
وتلك هي النومات التي تأتي بعد يومٍ شاقٍّ ، تزيد العقل قوةً ونشاطاً وتهب الذهنَ صفاءً ونقاءً ،
لا كنومات العصر والضحى التي قيل فيها :


ألا إن نومات الضحى تورث الفتى *** خبالاً ونومات العُصير جنونُ


ما دخلتُ المسجد حتى قُضيت الصلاة ، فرأيتُ رجلاً كبير الجسم كبير السِّنِّ ، قد فاتتْه الصلاة مثلي ،
فجئتُ قريباً منه لنصلي جماعةً ، فأقام الصلاة ، وعلى أنه لا يوجد من المتأخرين إلا أنا وهو إلا أنه أقام الصلاة بصوتٍ مرتفعٍ ملأ فضاء المسجد ، واهتزّتْ له أعمدته ،
كان جهْوريَّ الصوتِ وكان رجلاً من أهل نجدٍ ، لحى الله أصواتنا التي كأنها تخرج من خُرْم إبرة ، رِقّة وضعفاً ،
لو أنصتَ أهل المسجد لما سمعوه إلا همسا!
تعوّدنا على أن الأدب أن تخفض الصوت حتى كُنّا والنساء على قدمٍ وساق!
وأوحى إلينا المتنطِّعون في البروتوكولات الاجتماعية ، الناشئون في الحِلْية بمصطلح اللياقة ، كونوا خافضي الصوت أبداً ،
وهذا خلاف ما كانت عليه العرب ، فحين عطس ابنُ أحدِهم عند الخليفة عطسة خفيفة ، لامه أبوه بعد أن خرجا ،
قال له : قبحك الله ، أفلا عطستَ عطسةً ينخلع لها قلب الخليفة ! وأنا لا أقول في العطسة بما قاله فديننا يأمرنا بخفض الصوت عند العطاس!
لكنه شاهدٌ على رفع الصوت ، ومن جهةٍ أخرى فإن رفع الصوت يُعفيك من قولهم : أعدْ ما قلتَ فلم نسمعك ، على أنه يوحي بالخوَرِ والضعف ..


خرجنا من استراحة العتش متوجِّهَيْن إلى الرياض ، وإن كان من شيء يزهو الحديث به عن العتش ويَطيب ويُؤنِس ،
فهي تلك الفتاة الشابّةُ التي
رأيتُها مع أمها وجدّتها ، عند مرورنا بالاستراحة في رجوعنا ،
وتالله وبالله لو لم أكن متزوِّجاً لكانت تلك الفتاةُ حليلتي ، وتُحفةَ داري ، ومِصباحَ غرفتي ،
ولكانت شعاري ودثاري ، ولكنتُ لها ولكانتْ لي، لا أستبق الحديث عنها الآن ، وسيكون الحديث عنها عند حديث القُفول من الرياض إن شاء الله..



دخلنا الرياض قريب الساعة السادسة صباحاً ، فألقيتُ تحيّتي إلى أهل الرياض ،
قلتُ : عموا صباحاً يا أهل الرياض ! ما أجابني إلا برج المملكة يفتح لي فمه مبتسماً ،
كأنما يرد التحية بأحسن منها ، لقد كان أهل الرياض يَغُطّون في سباتٍ عميق ، كأنني بشخيرهم أسمعه يترادُّ بين جنبات المدينة ،
اليوم يوم الخميس فالحِراك قليلٌ والمستيقظون قليل ، غير أن هناك من حيّانا أعظم تحيّةٍ ، إنه الهواء !
لقد وقف لنا وحيّانا تحيّة عسكرية فكان لا يتحرك ، طفقت وصاحبي نجوس خلال شوارع الرياض ،
نبحث عن موقع معرض الكتاب ، لم يطل بنا البحث حتى وجدناه ، ولإنه بقي على افتتاح المعرض ثلاث ساعاتٍ تقريباً ،
قلنا لنستأجر شُقَةً مفروشةً فنرتاح بنومة تُزيل ما تبقّى من عناء السفر ، فكان ذاك بحمد الله فاستأجرْنا شقّةً كأن الشاعر يعنيها حين قال :

وبلدةٍ ليس بها أنيسُ *** إلا اليعافيرُ وإلاّ العيسُ

وهذا البيت من الشواهد النحْوية ، وهو شاهدٌ في باب الاستثناء عند مبحث الاستثناء المنقطع ، ومعنى المنقطع :
أن المستثنى ليس جزءاً من المستثنى منه ، مثل ما قام القوم إلا حماراً ، فالحمار ليس من القوم إن لم يخب ظني!! ،
فالحجازيون يوجبون النصب وبه جاء التنزيل في قوله تعالى (ما فعلوه إلا قليلاً منهم) وقوله (ما لهم به من علمٍ إلا اتباعَ الظن) ،
أما تميمٌ فيرجِّحون النصب ويجيزون الاتباع على أن المستثنى بدلٌ من المسثنى منه ، فيقرأون (اتباعُ) بالضم ،
ويقولون : ما قام القوم إلا حمارٌ ، وهذا البيت يشهد لهم ، بينما نحن الحجازيون يشهد لنا القرآن !!
على أنني أوافق بني تميمٍ في الإتباع بجعل المستثنى بدلاً من المستثنى منه إن كان الذي قام إنسانٌ في مِسْلاخ حمار!

وهذا البيت لعامر بن الحارث المعروف بجران العود ، وهكذا يرويه النحاة من سيبويه ولكن الرواية في ديوانه هكذا :

قد ندعُ المنزل يا لميسُ *** يعيش فيه السبع الجروسُ

الذئب أو ذو لبد هموسُ *** بسابساً ليس به أنيسُ

إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ *** وبقرٌ ملمع كَنوسُ

( من كتاب منحة الواهب العلية شرح شواهد الكواكب الدُّرِّية لعبدالله الشُّعبي)



الى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله

أسد نجد غير متصل   رد مع اقتباس