**الحلقة التاسعة**
مرحباً بكم يا سادة يا كرام وسلامٌ من الله عليكم ورحمة منه وبركة
---------- أخذ النساء يتجوّلْنَ في المعرض جيئةً وذهاباً ، في منظرٍ لا يُحسد عليه مجتمعٌ محافظ ، فالبعض منهن في كامل زينتهن ، تزاحم الرجال مَنْكِباً بمَنكِب ، ناهيك عن تلك التي رأيتها تسوق عربةً طويلةً وضعتْ فيها ولديها ، أحقاً هذا معرض كتابٍ أم ماذا ؟! وهناك من النساء من هُنَّ في كامل حجابهن ، جِئنْ للكتاب وللكتاب فقط ، على أن خيراً لهُنّ أن لا يُزاحمْنَ الرجال ، وينْأيْنَ بحيائهن عن كل موطنٍ وموقع يكثر فيه الرجال ، فلقد دأب الرسول صلى الله عليه وسلم على فصل النساء عن الرجال ، فجعلهن في آخر المسجد ، وجعل لهن باباً ، وجعل لهن يوماً يعظهن ..
---------- أما عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينطبق عليها المثل السائر (ارحموا عزيز قومٍ ذلّ) ، كان وجودُهم ـ بحسْب ما رأيت ـ صوريّاً لا يزيد على الاستعراض فقط ! لم يكن لهم وجودٌ فعّالٌ في المعرِض ، فلو لم يحضروا لكان أحفظ لماء وجوههم ، أما أن يحضر ممثِّل الهيئة ويرى المنكر الحاضر ولا يتكلم مع وجود السلطة لديه فهو يُضفي على تلك المشاهد شيئاً من الشرعية عند الجهلة ، لقد رأيتُ أحدهم دخل ومعه شرطيٌّ وهو يتحادث معه بصوتٍ مرتفع كأنه يقول (نحن هنا) ، فيمرُّ بجانب نساءٍ متبرِّجاتٍ ولا يُحرِّك ساكناً ، ثم خرج كما دخل لم يخاطب واحدةً بعينها ! حتى رجل الهيئة الذي رأيته عن تلك التي توقّع لروايتها ، كان واقفاً بحذائها ، فكان مِثْله مِثْل سائر من في المعرض من النظّارة..
---------- الحق أن المنظر العام الذي رأيتُه لممثّلي الهيئة يدعو للبكاء الحلمنتيشيِّ الصاخب ، ذاك يا سادة بسبب أن الدولة في أكابرها تدعم الهيئة قولاً وعملاً ، فلماذا يبدو رجل الهيئة سلبيّاً في وجوده ! أكان يعجز عن كلمة ، عن نصيحة ، عن إشارة ، وهنا دعوةٌ إلى تمحيص رجال الهيئة ، فبعضهم متخاذلٌ تأثر بالحملات الإعلامية فانهزم وتقوقع ، وهذا التمحيص يعضده تمحيصٌ آخر وهو تشذيب الهيئة ممن لا يقف عند ما حدّ له وليُّ الأمر ، وكِلا طرفي قصْد الأمور ذميمُ ..
----------تجولتُ في المعرِض وعيناي تتقلب ذات اليمين وذات الشمال ، لمزيد فضولٍ لا أنفكُّ منه مُذ فتحتُ عينَيّ على هذه الدنيا ، فرأيتُ فيما رأيتُ من المناظر منظراً أضحكني حتى الثُّمالة ! رأيتُ شاباً من شبابنا يدلُّ محيّاه على خصامٍ شديدٍ بينه وبين الثقافة ، سيماهم في وجوههم ! رأيتُه ـ وقد انتهز فرْصةَ الحرّيّة المشؤومة ـ منهمكاً في حديثٍ جانبيٍّ في وسْط المعمعة مع امرأةٍ ، أظنه لم يجدْ من تُعطيه وجْهاً سواها ! لقد كانت هذه المرأة غير سعودية وفي عُمر جدّته ، وما أظن مَيْله إليها إلا لكونها كاشفةً عن وجهها ، أصابني ما أصاب رجال الهيئة فلم أُنكر إلا بقلبي ! كأني بتلك المرأة تلطم حظّها التعيس ، حين كان قدرُها أن تُطاوِل هذا العناء ، فنحن نعلم أن النساء من الدول العربيّة الأخرى مثقّفاتٍ إلى حدٍّ ما ، وكأني بها تحاول الفِرار من هذا البيت الشعبيِّ المُتهالك، لكنه كان قدراً ومُلصَقاً وجبلاً يصعب إزالته ، تركتُهما مُختلِفَين في مشاعرهما ، هي تبكي حظها وهو يُرقِص حظّه ، ومضيت في طريقي ..
---------- إن سألتم عن الحلمنتيشيِّ ذي الأنف ، فإنه لا زال في مستودع الشركة يسْترجِع ويُحوقِل ، لعدم إمكانية حضوره إلى المعرض مساء يوم الخميس ، فإدارة المعرِض تمنع دُور العَرض من إدخال الكُتب إلا في وقتين ؛ قبل الساعة العاشرة صباحاً ، وبعد الساعة العاشرة ليلاً ، أما أثناء استقبال الزوّار فلا تسمح ، وهذا تنظيمٌ جميلٌ ورائع . إذنْ سيظلُّ الحلمنتيشي في استرجاعه وحوقلته إلى مساء يوم الجمُعة ، لكنني لن أكون حاضراً معه فسأغادِر إلى المدينة ، والحق أن تنظيم المعرِض من حيث الانسياب والتجهيز كان رائعاً ؛ ففي وسْط المعرض حُجزتْ مساحة للعمل الإعلامي والتغطية الإعلامية ، فُرشتْ ببساطٍ أخضر ، رأيت لقاءً للدكتور العثمان مديرِ جامعة الملك سعود تنقله القناة الثقافية السعودية ، وفي آخر المعرِض قسمٌ خاصٌ بالأطفال ، يحوي كُتيّباتٍ وقَصصاً وألعاباً مما تنمّي مهارة التفكير لدى الطفل ، أيضاً كان التكييف في المعرِض ممتازاً ، غير أنه ينقص المعرِض من حيث التجهيز عدم وجود مُصلّى ، فكان الناس يُصلّون أمام بوابات المعرض من الداخل ، في صفوفٍ متقطعة ، وبغير مكبِّرِات الصوت ..
---------- ولأني وصاحبي يا سادة من ذوي الدخل المُستلقي على قفاه! فقد طفقنا نبحث عن الإصدارات المجّانية من الكتب، فأخذنا صدقاتٍ من هنا وصدقاتٍ من هناك ! فربما وجدْنا دجاجةً ، وربما بِتْنا طاوِييْن نمُص تمرةً واحدة ، أقصد أننا وجدْنا كتباً مجّانية ووجدْنا أيضاً بعض المطْويّاتٍ ! أشعر وأنا أبحث عن الإصدارات المجّانية أن عدسات التصوير للقنوات الفضائية تلاحقني وصاحبي في برنامجٍ بعنوان (المتسوِّلون في معرض الكتاب) ، فترصُدنا ونحن واقِفَين أمام المجّان نمُدّ أيدِيَنا ، ثم تُتابعنا ونحن نَنْتحي جانباً نقتسم ما جنيناه من التسوّل ، فيضع كلٌّ منا نصيبه في قُفّته ، أوّاه أوّاه ! لقد أحسستُ يا سادة بحال المتسولين ، فبالله عليكم إن جاءكم متسوِّلٌ يبحث عن لقمة فلا تَزْرِموه ولا تنهروه ، فقد نُهيتم عن ذلك ([ وأما السائل فلا تنهر]) ، غير أني ـ والحق يُقال ـ اشتريتُ ! وما كان بودّي أن أُذيع سر الشراء رعايةً لقلوب الكادحين وحمايةً لشعور المحاويج ، لقد اشتريت لأبنائي لُعَباً ! حين كنت في قسم الطفل ، فلله من خسف العقول! يذهب لمعرض الكتاب ليشتري اللعب! ولذلك فعليه مع هذا العقل البهْرج أن يذهب لمعارض الألعاب ليشتري الكتب!!
---------- رأيتُ في المعرض فيما رأيتُ حُرّيةً في الكتب ، فرأيت كتباً للرافضة تباع على غلافها صورة الرافضي الخبيث حسن نصر الله ، الذي شتم السعودية في يومٍ من الأيام ، وإن لم أهِم فالكتاب من تأليف حسن نصر الله ، وأظن أن المسؤولين عن المعرض صرحوا بأنهم لم يمنعوا كتاباً واحداً ، ولم يسحبوا كتاباً واحداً ، بل كان السماح عاماً ! بالطبع السماح لكل ما هبّ ودبّ ودرج ، وهذا لا يقول به أعتى الداعين إلى الحرّية ، فلا بد من سقفٍ ولا بد من خطوطٍ حمراء يُمنع تجاوزها ، وهذا السماح طعنةٌ نجلاء في خاصرة المتشدِّقين بالوطنية ، فلو كانوا ـ من سمح ومن أيّد السماح ـ يشتملون على وطنية صادقة لَما سمحوا بعرض كتاب من شتم دولتهم ! لكننا عهِدناهم ورأيناهم ؛ وطنيوّن في الضوء ، ومُنسلخون من جلْد الوطنية في الظلام الدامس ، وحين تتحين الفُرص ..
---------- رأيتُ في المعرض فيما رأيتُ أن مَن ظاهره الاستقامة من الشباب والشيب يملأون جنبات المعرِض ، مما يثلج القلب ويشرح الصدر ويقرّ العين ، فالعلم والتثقّف عاصمٌ من الموقوع في شبهات المشبِّهين وشكوك المشكِّكين ؛ من خوارج العصر ، ومن فاسدي الاعتقاد من روافض ومعتزلة وأشاعرة وصوفية ، ومن المرتدّين الذين يدينون بدينٍ غير الإسلام ، كالإنسانية والعقلانية والليبرالية ، وهذا ليس حِكراً على من ظاهره الاستقامة ، بل عصمةٌ للجميع ، فإنه لا عاصم من قُطّاع الطرق أولئك إلا بالعلم ، وإن المجتمع حين يكون مجتمعاً متعلِّماً ويعتمد على العلم ، فإنه يُحصِّن أفراده من طوارق الليل وعاديات النهار ، وما غُرِّبتْ المجتمعات الإسلامية ، وما شُرِّق بها عن تعاليم الإسلام في شرق الأرض وغربها ، إلا بوأدِ العلم وإيلاد الجهل ، فتمكّن المشكِّكون والمشبِّهون بالباطل على رقاب مجتمعٍ جاهل ، فجاسوا خلاله قتلاً لكل فضيلة ، ونشراً لكل رذيلة ، بدءاً بصغار المعاصي ، مروراً بالكبائر منها وبالبدع ، وانتهاءً بالشرك بالله تعالى ..
---------- لم يطُلِ المُقام بنا في المعرِض غير ساعتين تقريباً ، ثم خرجْنا منه ، وحين جئنا عند باب الخروج طلب مني حارس الأمن إبراز مستند الشراء ، فكان معي قُفّتان ، فقلتُ له : هذه قسيمة الألعاب لهذه القُفّة ، وأما هذه فهي إصداراتٌ مجّانية ، فقال لي ممازحاً أعطني إياها ! فأريتُه حماليق عيني بعد أن قلت له : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أأظل سائر اليوم أجمعها وتأتي أنت تأخذها ! عجبي ! اذهب بنفسك واجمع منها ما شئتَ حتى تنوء بحملها!
أأشقى به جمعاً وتجنيه راحةً *** إذن فابتذال النقْد قد كان أحزما