عرض مشاركة واحدة
قديم 27-03-2011, 12:31 AM   #67
عضو مميز جداً
 
تم شكره :  شكر 16431 فى 4678 موضوع
أسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضو

 

رد: مـذّكـرات مجهول !!


**الحلقة قبل الأخيرة**


مرحباً بكم يا سادة يا كرام وسلامٌ من الله عليكم ورحمة منه وبركة



استيقظنا لصلاة فجر يوم الجمعة ، صلّينا ثم حزمْنا أمْتِعَتنا ! من يقرأ كلمة (أمْتِعَتنا) يظنها عشرَ حقائب كُل حقيبةٍ ينوء بحملها الأشدّاء من الرجال! بينما هي في حقيقتها لا تتجاوز قميصين واثنين من السراويل الطوال ومثلها من القصار، وعمامةً وطاقيّةً وثوباً واحداً ، بالإضافة إلى ما اشتريناه من اللعب ، وكلها توضع في حقيبة مدرسيةٍ واحدة !


ركبْنا سيارتنا خارِجَين من مدينة المخارج! كان صباحاً مُعتِماً فالغُبار قد كسا الرياض بثوبٍ أصفر شفّافٍ ، خرجت من الرياض وقد أودعتُها ثمرة أصابعي ، أودعتها الحلمنتيشي ، فكاد قلبي يتمزّق ونفسي تتقطّع حسراتٍ عليه ، أوّاه أوّاه يا أيها الحلمنتيشي ، ستكون فيذا وسأكون فيييذاك ! ولعلنا نلتقي بعد مُدة وقد تغيّر لسانُك فيكون وصْل ما بيني وبينك التُرجمان ، يُترجم لي ويُترجم لك ، هاكا هاكا ! حتى إذا ما غاب التُرجمان طفقنا يحادث بعضنا بعضاً بالإشارات المصحوبة بكلامٍ خافتٍ متقطّع !


وقفتُ بقلبي بعد أن تجاوزْنا البُنيان ، فاستقبلتُ الرياض أنظر إليها مودِّعاً ، وكأنها عُلبة تونة ، والهواء يعبث بثوبي وعمامتي ، وقد دمعتْ عيني فعرف الناس بها أن الرياح لا شرقية ولا غربية ، ولا هي جنوبية ولا شمالية ، فقد كان الدمع يتساقط على إبهام قدمي اليُسرى ، وقفتُ يا سادة فكنتُ كما قال طرفة بن العبد حين كاد يهلك أمام أطلال خولة فقال :


وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم *** يقولون لا تهلكْ أسىً وتجَلّدِ


فكدتُ أهلك عند الحلمنتيشي فقد صعُب التجلّد على مثله ، وكيف أجد مثل الحلمنتيشي ؛ أنْفاً أصفرَ ، وعيناً أوسعَ ، ورأساً أصلعَ


مضينا في الطريق إلى المدينة وقد خلّفت الرياض دَبْر أّذني ، فكنت ألتفت إلى خلفي إلى جهة الرياض ، حتى تحوّل قفاي إلى صدري ووجهي إلى ظهري فلو أردتُّ مشْيَ القهقرى لمشيت أماماً ! فكنتُ كما قال شاعرُ زمانه ومبدعُ أوانه؛ سِبْط ابن التعاويذي ، حين قال في قصيدته الرائعة المعنى والمَبنى :


وإذا الركائب في الجبال تلفّتَتْ *** فحنينها لِتلفُّتي وحنيني


عاش سِبْط ابن التعاويذي في زمن صلاح الدين الأيوبي ، فبعث إليه بقصيدته التي تُحاكي نجوم السماء ، قال في مطلعها :


إن كان دينُكَ في الصّبابة ديني *** فقِفِ المِطَيَّ برَمْلَتَيْ يَبْرينِ
والثُمْ ثرىً لو شارفتْ بي هُضْبُهُ *** أيدِي المِطيِّ لثمْتُه بجُفوني
وانْشُدْ فؤاديَ في الظباء مُعرِّضاً *** فبغير غِزلان الصريم جُنوني
ونشيدتي بين الخيام وإنما *** غالطتُ عنها بالظباء العِينِ
لولا العِدى لم أكْنِ عن ألحاظها **** وقُدودِها بجوازئٍ وغُصونِ


إلى أن قال :


إن تُنكِروا نفَس الصَّبا فلأنها *** مرّتْ بزفرة قلبيَ المحزونِ


فإن أنكرتم يا أهل الرياض نسيم الصباح وأنفاسه ، وإن أنكرتم أنفاس الخُزامى والعرار ، فلأنها مرّت بثوبي وعِمامتي! كما تعرفون فالمسافر يكون أشعث أغبر ... الخ ..


خرجتُ وقد فتحت زجاج نافذة سيارة ، ومِلْتُ برأسي إلى ظهري لكي يأخذ أنفي راحته ، يحثو من شميم عرار نجد ، وأنا أقول له :


تمتع من شميم عرار نجدٍ *** فما بعد العشيّة من عرارِ


ولو قلتُ الحقيقة لقلبتُ البيت فقلت :


تمتع من شميم غُبارِ نجدٍ *** فما بعد العشيّة من غُبارِ


خرجنا حتى وصلْنا إلى استراحة العتش ، وهناك تركتُ قلبي في متحفٍ جميل كُتب على بابه (الهوى غلاّب) ، ستجدونه معلّقاً على ذِراع نُصبِ الجندي المجهول فأدركوه قبل أن تُكسر ذراعه فيفوتكم مشاهدة قلبي . تناولنا فطورنا في المطعم ثم خرجنا ووقفْنا بجانب بائع ألبان وحليب العتش ، فاشتريتُ منه لذُرِّيّتي ، ثم ضحكتُ ضحِكاً كالبكاء ! وحُقّ لي البُكاء يا سادة ! رجلٌ يذهب إلى معرض الرياض الدولي للكتاب ، لِلْكتاب ! لِلْكتاب ! فيعود منه بألعابٍ ولبَن !! ركبتُ سيارتي ولمّا أخطُ خطوة حتى رأيت ما أسميتُها بـ فتاة العتش !


لحظةُ صمْتٍ يا سادة ..
وقوفٌ بظهرٍ مستقيم يا سيدات ..
هدوءٌ وسكونٌ يا آنسات ..


رأيت فتاةً مع أمّها وجدّتها ، جِئن لطلب الرزق ، فهُنَّ يبِعْن ما أتينَ به ، شدّني هذا المنظر ، منظر الفتاة تساعد أمّها وجدّتها فتأتي ببضاعتهنّ من السيارة ، أذهلتني في مشْيتها فقد كانت تمشي بهدوء الواثقة ، وبقامةٍ مستقيمة تَفْرَع من معها ، ذاهبةً آيبةً بين السيارة وبين مبسطهم ، لو حزرْتُ عمرها لقلت هي ما بين الثامنة عشر والثانية والعشرين ، تالله وبالله لكأنّ سِبْط ابن التعاويذي يعنيها حين قال :


لله ما اشتلمتْ عليه قِبابهمْ *** يوم النوى من لؤلؤٍ مكنونِ
من كل تائهةٍ على أترابها *** بالحُسْن غانيةٍ عن التحسينِ
خَوْدٍ تُرِي قمرَ السماء إذا بدتْ *** ما بين سالِفةٍ وبين جبينِ


وإني لأحلف كما حلف كُثَيِّر فقال :


حلفتُ برَبِّ الراقصات إلى مِنى *** خِلال الملا يمْدُدْنَ كل جديلِ


على أنها فتاةٌ من خير الفتيات خَلْقاً وخُلُقاً ..


أسرجتُ بصري وسرحت بخاطري ، فقلت سبحان الله ! هذه فتاة في قرْيةٍ بعيدةٍ ، تكدح في طلب الرزق مع أمها وجدتها ، في حرارة الشمس بجانب مسجدٍ على قارعة الطريق ! متلبِّبةً بثيابها في كامل حجابها ، وربما لفحها الهجير بقسوته فنال من بهائها ونضارة وجهها ! بينما هناك في معرض الرياض ، تجلس مها النهدي على كرسيٍّ وثير ، والهواء البارد يُربِّت على كتفيها ، وفي يدها القلم يسرح ويمرح بالتَّوقيع على روايتها ، يا لها من مفارقةٍ عجيبة !!


لله أنتِ يا فتاة العتش ! لم يتحدّث عنك الإعلام كما تحدّث عن بنتِ النهدي ، وما ذكر اسمك كما ذكرها ، ولله أنتِ يا فتاة العتش ! أسدلتِ خمارَكِ في بيداء من الأرض يقِلُّ الرجال ولا يكثرون ، يوم أن لم تبالِ بعض النساء عندنا ، حين شكّلتْ خمارها بأوضاعٍ مختلفة حتى ضجر الخِمار وقال : إلى متى يُتلاعَب بي !! ولله أنتِ يا فتاة العتش يوم أن قُدِر عليك رزقك حكمة من الله ورحمة فهو الحكيم الرحيم ..


حفظك الله يا فتاة العتش لأهلك وذويك ، وعِشتِ هانئة وادعة ، وكنتِ في خير حالٍ في الحِلِّ والترحال ، يسّر الله لك أمرَكِ ، وكفاك شرّ كلِّ ذي شر ، وجعلك في بحبوحة السعادة وفي قمة الهناء ..


تركْنا استراحة العتش في طريقنا إلى المدينة ، فوصلْنا الميل بالميل ، وألْحمْنا المِئةَ كيلاً بأختها ، حتى وصلنا المدينة ظهراً ، فدخلتُ منزلي أحمل معي هدايا معرض الكتاب ؛ الألعاب واللبن !!

انتظروني في الحلقة الأخيرة ..
أسد نجد غير متصل   رد مع اقتباس