عرض مشاركة واحدة
قديم 03-04-2011, 12:07 PM   #73
عضو مميز جداً
 
تم شكره :  شكر 16431 فى 4678 موضوع
أسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضو

 

رد: مـذّكـرات مجهول !!

( 3 )

الصحراء



في الصباح ..
ناولني الكفيل كيسا فيه ثوب أسود وكوفية وشماغ ومعطف رمادي مهترئ .. وملابس داخلية بيضاء ..
قطعنا مسافة ساعة كاملة على الاسفلت الممتد جنوبا ثم انحدرنا يمينا ودخلنا في الصحراء ..

السيارة هي الأخرى تظهر حنقها في كل مرة على الصخور العنيدة والتعرجات الناتئة ..

ساعة أخرى قطعناها في الصحراء كانت أشد علي من السفر الطويل في الطرق المعبدة ..

والعالم المجهول الذي ينتظرني أيضا كان هو الآخر يخلق في صدري كثيرا من الأسى ..

ياااالله .. لطفك ياكريم ..

وظهرت مني تنهيدة بلا شعور ..

فرمقني الكفيل وقد ظللنا صامتين طوال الطريق ثم عاد إلى السير وهو يحدق في الأفق البعيد ..

وبعد لأي وصلنا الخيمة .. في تل صغير .. يشرف على واد ممتد الأطراف .. فيه أشجار صغيرة شهباء مترامية .. ورمل أصفر بعيد ..

يظهر عليها أنها خيمة قديمة .. أو مستعملة .. وإلى جوارها كان هناك شبك مملوء بالغنم ذات اللون الأسود .. وناقلة ماء عجوز راقدة على التلة بكل ملل ..

حينما اقتربنا من الخيمة نبحنا كلب الحراسة الأصفر من طرف التلة .. ثم راح يدور حول السيارة وهو يبصبص بذيله بينما بدأت الأغنام بالنهوض وهي تثغي ثغاء السائل المسكين ..

- أبو الكلام ..
انطلقت نحوه داخل الخيمة ..
- جيب أغراض هنا ..
أخبرني أن هذا هو السكن الذي سأنام فيه على الدوام ..
ثم انطلقنا وقام بملء أحواض الماء أمامي ..
ثم أخرج الأغنام من الشبك ..

وفي المساء شرح لي كيف أسوق الأغنام إلى زريبتها .. وأعطاني كشافا ضوئيا يعمل بالبطارية الصغيرة .. وأمرني أن أحمل صندوقا كرتونيا من السيارة إلى الخيمة .. وذكر لي أنه سيأتي قريبا .. ثم أدار محرك السيارة ومضى ..

كان الليل أكبر من هذه الصحراء الشاسعة .. وكان البرد يحتويهما جميعا .. وأنا واقف بين هذه الوجوه الثلاثة ..

رتبت الخيمة على عجل .. وقد كان الكشاف بالكاد يفي بما أريد ..
كان في الصندوق بعض أكياس خبز .. وبقايا من بصل وطماطم .. وكبريتان عليهما جواد يمتطي حصانا ..

العراء .. الليل .. الوحدة .. الشتاء .. والخيمة البالية !

أين ذهب خيال أمي وأبي في نوع السكن الذي سأنزل فيه ؟

هل جربت أن تنام وحيدا في صحراء لا تعرفها ؟ ... وحيدا ؟

لبست الثياب التي في الكيس وتمنيت لو كان معي مرآة لأشاهد صورتي باللباس السعودي !
الهواء الذي يتسرب من شقوق متفرقة ظل يطارد أطرافي ..
ووشوشة أسمعها خارج الخيمة ولاأعرف كنهها ! .. أو أن ذلك يخيل إلي ؟

كنت أرفع رأسي في الظلام وأنصت كأشد مايكون الإنصات .. فأسمع وشوشة من كل شيء ولكني لاأسمع شيئا !
سمعت نباح كلب بعيد .. بعيد جدا .. يأتي به الهواء تارة ويصرفه تارات أخرى ..
دائما ماتكون الليلة الأولى في كل حياة جديدة طويلة وغامضة ..
كنت مستبعدا أن أنام مع هذا الشعور ..
وقد لازمني هذا الشعور حتى بعدما أفقت على سماء زرقاء كنت أشاهدها من أحد الشقوق !!

وصوت أذان بعيد .. فرحت به فرحا شديدا ..

توضأت وأذنت وصليت الصبح ..

الصحراء تصبح جميلة جدا والمؤذن يصدح على ربواتها ..




انطلقت مع الأغنام في الصباح .. وتعرفت على الكلب .. وتعرف علي .. ودرنا سويا في الأماكن القريبة .. ولكنني لم أشاهد أحدا !

الليل يأتي بالأصوات أكثر من النهار ..

لابأس ..

هناك مخلوقان عظيمان تبدوا عليهما القسوة ولكنهما أليفان جدا حينما يقتحم الإنسان أسرارهما : الصحراء والبحر

لقد وجدت في الصحراء أنسا .. وعشت مع الأغنام عيشة لاتوصف .. وألفت المكان .. وودت لو كنت أستطيع الاتصال بأهلي أو أن أوصل ذلك إليهم برسالة ..

صحيح أنهم كانوا يعدونني لأن أكون في مكان أفضل وعمل آخر إلا أنني راض عن هذا العمل الذي أقوم به الآن ..

يعكر صفو هذه الحياة زيارة الكفيل في كل مرة .. وأوامره العنترية الجوفاء .. وتسلطه الكبريائي ..

إلا أن زيارته كانت متقطعة بحيث ربما مكث أكثر من أسبوع في بعض الأحيان ..

في الأيام الأولى جاءني في الخيمة رجل مهيب الطلعة .. له لحية بيضاء وقورة .. ووجه واسع أبيض قلبت لونه الشمس إلى السمرة .. ومعه عامل هندي من كيرلا أيضا
الله عليك ياكيرلا .. الناس لايعرفون أنك كلمة قلبتها ألسنة الزمن من ( خير الله )
عرفت أن هذا الشيخ له قطيع غنم خلف التلة في آخر الوادي .. وأن (أكتر) يرعى الغنم لديه .. سعدت به .. وتحدثت معه كثيرا بينما كان الشيخ يتفقد الأغنام .. قال لي إن هذا الشيخ من أقارب كفيلي وأنه طيب جدا ..

عرفت الآن سر الأذان في تلك الليلة .. إنه صوت أكتر ..

ماأجمل هذا النوع من الصداقة في مثل هذه الظروف ..

وفي الصحراء صداقات أيضا تغوص في دقائق حد العمق ثم تتلاشى وكأنها طيف حلم ..

هناك سيارة بيضاء متجهة نحو الخيمة .. يتطاير غبارها في الأفق .. يبدو أنها فارهة ..
الشمس تزول بعد أن أخذت وضعا رأسيا في السماء ..

نزل منها خمسة رجال سعوديين .. لهم لحى سوداء بعضها خفيف وبعضها كثيف .. أحدهم كان يرتدي لباسا رياضيا .. صافحوني جميعا !
وابتسموا لي .. وسألوني عن اسمي فقلت لهم : أبوالكلام
كانو يريدون تعبئة ماء من الناقلة وشراء خروف صغير
تبادلت معهم الحديث بصعوبة .. ولكنني كنت مطمئنا للحديث معهم .. كانوا يبتسمون معي .. ويلاطفونني .. ويبدأون حديثهم معي باسمي قائلين : شوف ياأبوالكلام ..
ملأنا أوانيهم بالماء وأخبرتهم أن الكفيل لا يسمح لي بالبيع من الأغنام .. وأشرت إليهم بالذهاب إلى قطيع أغنام كفيل أكتر .. سألوني عن مكانه .. وشرحت لهم متحمسا ..
تحدثوا فيما بينهم قليلا .. ثم التفت إلي أحدهم وقال : أبو الكلام .. أنت مافيه مشكل روه معي لأكتر ؟
قلت له وأنا في كامل سعادتي : مافيه مشكل ..
ركبت معهم إلى جانب الراكب في المقعد الأمامي ! .. كانوا في الطريق يسألونني عن المطر .. متى نزل .. ويسألونني عن أسماء أماكن لاأعرفها حتى كنت من حبي لهم ومحاولة مساعدتهم تحمست في توصيف أحد الأماكن بحسب فهمي للكلمة ولكنني تفاجأت ببرودتهم في تقبل الوصف مما جعلني أكتشف أن وصفي كان مدبرا جدا !

اشتروا خروفا من أكتر .. وربطته لهم .. ثم عدنا إلى الخيمة .. وقبل أن يذهبوا توضأوا من الماء وطلب مني أحدهم أن أؤذن .. فأذنت وأنا أحاول إبداء أجمل مايكون في حنجرتي .. وصلوا الظهر والعصر ..
ركبوا في السيارة وأنا واقف أودعهم .. تهامسوا قليلا ..
ثم نزل أحدهم وفتح الباب الخلفي وجعل يجهز شيئا ما .. وناداني : أبوالكلام .. جئته مسرعا فناولني كرتونا فيه أطعمة متنوعة .. وكيسا فيه لحاف نظيف .. ونفحني من جيبه ورقة نقدية لاأعرف مقدارها ..
ثم ودعوني وانطلقوا ..
لقد أحببتهم من قلبي ..
كما كرهت أولئك الشباب الذين جاءوا مرة على سيارة نيسان شبيهة بسيارة الكفيل وقد ركب بعضهم في صندوقها وهم يسيرون بهيستيرية قبيحة .. وحينما حاذوني أنا وقطيع الأغنام عطف السائق مقودها نحو القطيع وأسرع وهو يصدر طنينا مزعجا من بوق سيارته حتى تبعثرت الأغنام وانطلقت في كل اتجاه ..
ثم ولوا وهم يضحكون !

لقد كنت في تلك الصحراء بعيدا عن الشر ..
ولكن بعض الناس ينقل شره معه حتى إلى الصحراء !


كانت تلك الصور تتكرر في الشتاء فقط .. وتزداد حينما يسقط المطر وينبت الربيع

مكثت في عملي هذا أشهرا طويلة ..

حتى جاءت ليلة أن بدأ الكلب ينبح نباحا متزايدا بشكل يوحي بخطر قريب ..
أسد نجد غير متصل   رد مع اقتباس