عرض مشاركة واحدة
قديم 03-06-2011, 12:19 AM   #205
عضو مميز جداً
 
تم شكره :  شكر 16431 فى 4678 موضوع
أسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضوأسد نجد نسبة التقييم للعضو

 

رد: مـقـالات سـاخـنـة

اللــذة


إنه آخر الناجين من حطام تلك السفينة الغارقة، وهو يبذل قصارى جهده للحاق بتلك القطعة الخشبية الهائمة، وسط ذلك الخضم العاتي من أمواج البحر، قطعة خشبية سوداء مهترئة، مثلت لآخر الناجين رمز أملٍ، ومستقر رحمةٍ، ونافذة حياةٍ ! كانت أمواج البحر المتلاطمة تتقاذفها في جنونٍ تامٍ، وصاحبنا يلهث ورائها، يمزق سطح الماء الهادر بذراعيه المتشنجين، لقد بذل جهداً خرافياً للبقاء حياً وسط هذه العاصفة الهوجاء .

كان البحر يداعبه بقسوةٍ بالغةٍ، فهو يدنيه من تلك القطعة الخشبية حتى إنه ليقرأ تضاريسها، ويلم بمعالمها، وما إن تمتد أطراف أصابعه إليها ملامسةً نتوءاتها البارزة، حتى يجرفه التيار مرةً أخرى إلى الوراء بعيداً عنها، فتتحطم آماله وتتلاشى أحلامه، لتدور عجلة المقاومة مرةً أخرى، وتعزف أوتار الحياة نغمات القتال في عروقه، يستجيب الذراعان في تلقائيةٍ تامةٍ لأوامر العقل الكليل، ويعود صاحبنا إلى التجديف مرةً أخرى وشق مياه المحيط في قوةٍ ضاريةٍ مشوبةٍ بيأسٍ قاتلٍ .


أذعن البحر أخيراً له، واستسلم لمقاومته في إعجابٍ باهرٍ لتلك الروح الباسلة من كائنٍ بشريٍ ضعيفٍ، والبحر يحترم خصومه ويهابهم ! وصل صاحبنا إلى تلك القطعة الخشبية الهائمة، واستطاع أن يضمها إلى نفسه بقوةٍ، ويعانقها لبرهةٍ قبل أن يفلتها تماماً ويسلم نفسه لنداء الموت، لم يجد البحر بداً من ابتلاعه، إنه لا يستحق الرحمة ولا العطف !


تقول الأسطورة : إن بحار الدنيا أدركت سر انتحار هذا الناجي، لقد حقق أمله أخيراً، لكنه فقد لذة الظفر ! لم يعد سراً أن تلك البحار أصبحت تلفظ جثث الغرقى إلى سطحها، احتقاراً لهم ومقتاً، إنهم لا يستحقون التكريم في جوف البحر !


الحيرة هي وجه الحياة ! ما الذي نريده منها ؟ زوجةً حسناء جميلةٍ ؟ مال ومنصب وجاه ؟ شهرة واسعة تعم أفاق الدنيا ؟ ثم ماذا بعدها ؟ يتسلل اليأس، وتداعبنا الرتابة، ويستحكم بنا الملل !؟ هل العيب في تلك الجوائز المادية المضمحلة ؟ أم في ضعفنا الإنساني وطبيعة الحياة البشرية في الجملة ؟


نفرح كثيراً لنمو أطفالنا، كما يفرح المراهق بنفسه إذا شب عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال، وكسر قيد الرقابة الأبوية الصارم، غير أن الحقيقة تقول : إن مراحل النمو المختلفة للكائن الحي ( الإنسان خصوصاً ) تباعد المخلوق البشري من الدنيا وتقربه من الآخرة ! كلما ازداد الإنسان إيغالاً في الحياة كلما اقترب من حتفه، أو كما يقول الوعاظ : كل يومٍ يمر عليك، يباعدك من الدنيا، ويقربك من الآخرة ! والعقل لاهٍ، والآية الكريمة تقول ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون) لذة النمو تضمحل بالتقدم في العمر، ومقارعة الحياة .


أعوذ مرةً أخرى إلى اللذة، لذة الظفر بالأشياء، لماذا نفتقدها إن ملكنا تلك الأشياء ؟ لماذا لا تعمر تلك اللذة طويلاً ؟ بل لماذا لا نتلذذ بها بشكلٍ دائم ؟ هل ارتبط فنائها في عقولنا بفناء الخلق ؟ أم هي تفنى لأن كل من عليها فانٍ ؟ باعتبار أن اللذة وإن كانت محسوسة أو معنوية، هي لذة دنيوية تنقضي بتصرم هذه الحياة ؟ التصرم المقصود نسبي ! دعوني أوضح لكم، قيامة الإنسان موته، وقيامة الدنيا فنائها، إذا فني الإنسان تلاشت جميع لذاته، وقد تتلاشى قبل موته بسبب الرتابة ونحو ذلك، لا أريد أن أغرقكم في فلسفتي الخاصة .


اللذة تتكرر بصورةٍ واحدةٍ على مر العصور، فلذة المال في القرن الواحد والعشرين، هي نفسها لذة المال في القرن الهجري الأول، غير أن مبادئنا تختلف عن مبادئهم، مبادئهم سامية، ومبادئنا سافلة إلا من رحم الله، ولذلك قال أحدهم : والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه من اللذة لجالدونا عليها بالسيوف، مثال توضيحيٍ آخر، صفوا لي لذة أهل المعاصي ؟ هي لذة جميلة بالنسبة لصاحبها، ولكنها من وجهة نظرنا نحن، لذة طارئة خاطئة، الأمر نسبي هنا، فهو مستمتع بها، والعاقل يرى أنه استمتع بأمرٍ لا يحل له، مثال ذلك : يجد السارق كمال لذته في السرقة، لكنها لذة سريعة التصرم والفناء، بدليل أنه يخطط للسرقة مرةً أخرى ! وهكذا حتى يتوب أو يزج به في غياهب السجون، يقول الحسن البصري عن أهل المعاصي : فهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، والله جل وعلا يقول ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسونون صنعاً )

صلاح حسن صاحب رواية ( ثمانون عاماً بحثاً عن مخرج ) وجد كمال لذته في عمليةٍ فدائيةٍ استشهد فيها على ثرى فلسطين، وغيره يجد كمال لذته في الانكفاء على نفسه ومعاقرة الخمرة، لا يكاد يصحو حتى يغفو مرةً أخرى، اللذة هنا نسبية، لكنها وبطبيعة الحال تخضع لمعايير الشرع الدقيقة .

الأديب الروسي مكسيم جوركي صور كمال لذة شيخٍ روسي في الاعتراف بما يختلج في صدره من ألمٍ الفقد، ولوعة الفراق لابنه الشاب الذي كان يؤمل عليه آمالاً عريضةً، كان الشيخ الروسي يعمل حوذياً في صقيع روسيا، وكان له ابناً شاباً يرى فيه أملاً متجدداً لحياته، غير أن صفحة الموت طوت عمر ذلك الشاب بمرض السل، فلم يجد الأب بداً من بث زفرات نفسه وبث أحزانه على ركابه، ركب معه ضابط روسي فبدأ الشيخ في تشنيف أذان الضابط بقصة ابنه الشاب الوسيم، أمره الضابط في فضاضةٍ أن يلوذ بصمته، ركبت معه امرأة وانشغلت عن قصته بالغناء، ثم ركب معه رجل ثملٍ، فابتدأ الشيخ مواله ليعلو على صوته الكسير غطيط السكير، لم يجد الحوذي بداً في نهاية المطاف من أن يقص قصته المأساوية على حصانه الهرم !

اسأل نفسي كثيراً، إذا كانت اللذة تفنى فلماذا نتكالب على تحصيلها في ضراوةٍ مخجلةٍ، وهي لذة دنيوية صرفة ؟


ما قولكم في لذة العابد الزاهد ؟ هي تفنى في نفوس أصحابها كغيرها من اللذات الدنيوية، ومرد ذلك والله أعلم إلى طبعنا البشري المعقد، حديث حنظلة رضي الله، وما يجده في نفسه إذا جلس مع النبي عليه الصلاة والسلام حال الوعظ والتذكير، ثم إذا انصرف عن ذلك المجلس النبوي وعافس الأبناء والزوجات تلاشت تلك اللذة، ربما بقيت أثارها في أعماق النفس وأشلاء الذاكرة، لكن حرارتها تتلاشى !

اللذة أسمى من الراحة، وهناك فرق جوهري بينهما، الراحة مرحلة تمر بها العاطفة الإنسانية قبل أن تصل إلى كمال اللذة ! وقد تقف العاطفة الإنسانية، والمشاعر الوجدانية للإنسان عند مرحلة الراحة وتقبل بها كحلٍ وسط، لكنها إن تجاوزتها بلغت اللذة، بل وربما كمال اللذة المطلق، لكن أحاسيسها تجاه تلك اللذة التي بلغتها لن تعمر طويلاً، بمعنى قد ينزل مقياس العاطفة الإنسانية إلى أدنى درجاته، أي أقل من الراحة، وهنا تكمن الكارثة، السؤال الذي يتردد كثيراً بين الناس، ما هو الأفضل للنفس البشرية اللذة أم الراحة ؟ الراحة تعمر طويلاً، اللذة مجنونة تماماً لكنها مؤقتة وقد تعمر، فما الذي تفضله أنت عزيزي القارئ ؟

في مجلسٍ كنا، فقال قائل استشرفت نفسه لعرضٍ زائلٍ من الدنيا : ذاك أمير ذاك وزير، ذاك مدير وذاك سفير، ثم أشار باحتقارٍ إلى رجلٍ يرسم على وجهه ابتسامة خلابة، فقال : ومن يكون ؟ أجبته : إنه حكيم أو أديب، عابد أو زاهد، إنه إنسان تسمو روحه الطاهرة إلى ذرى العلياء، ويحلق فؤاده في عالمٍ ملائكيٍ طاهرٍ لم تدنسه قدماك، إنه يشعر بلذة القرب من الله تعالى والرضا التام عن نفسه، إن أساريره تنبئك عن حاله، ولا ينبئك مثل خبير .


بالمناسبة : هل يجد الإنسان كمال لذته في الحب، أم في الوصال ( المشروع طبعاً ) ؟ هذا السؤال يحتاج إلى خاطرةٍ أخرى، غير أنني عثرت على هذه الأبيات التي قد تجلي شيئاً من ذلك .



أغداً ألقاك ؟ يا خوف فؤادي من غد

يا لشوقي واحتراقي بانتظار الموعد

آه كم أخشى غدي هذا، وأرجوه اقترابا

كنت أستدنيه لكن، هبته لما أهابا

وأهلت فرحة القرب به حين استجابا

هكذا احتمل العمر نعيماً وعذاباً

مهجة حرَى وقلباً مسه الشوق فذابا

أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني

أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني

أغداً تشرق أضواؤك في ليل عيوني؟

آه من فرحة أحلامي، ومن خوف ظنوني

كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء

يا رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء

أنا لو لا أنت لم أحفل بمن راح وجاء

أنا أحيا في غدي الآن بأحلام اللقاء

فأت أو لا تأت أو فافعل بقلبي ما تشاء

هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر - هذه الدنيا ليال أنت فيه العمر

هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر - هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر

فارحم القلب الذي يصبو إليك - فغداً تملكه بين يديك

وغداً تتألق الجنة أنهاراً وظلاً - وغداً تنس، فلا تأسى على ماضٍ تولى

وغداً نسمو فلا نعرف للغيب محلا - وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا

قد يكون الغيب حلواً، إنما الحاضر أحلى

حسن مفتي
أسد نجد غير متصل   رد مع اقتباس